العرفان : منهج الأنبياء

مقتطفات من كتاب التصوف و المعرفة 1

في ملكوت القدس الإلهي ، لا حاكمية إلا لأسرار القلب الخفية


ما هي العلاقة الموجودة بين العرفان و بين أصل و جوهر تعاليم الأنبياء ، و كيف يمكننا أن نوجه انعكاس هذه العلاقة على زماننا الحاضر؟ لو أننا نظرنا بموضوعية و حسن نية إلى حياة و تعاليم هؤلاء العلماء الواقعيين عبر الأزمنة كلها لأدركنا بسهولة كيف أنهم خصصوا حياتهم كلها لإعلام حقيقة و علم لا نظير له كانوا هم كاشفون له، و ذلك بعشق كامل و صدق تام. و طريق معرفتهم لم يكن باتباع أقوال الأسلاف أو بدليل الخوف و الإجبار أو المسائل الإجتماعية، بل كان قائما بعلم على طلبهم الفطري الباطني الذي لا يتيسر إلا عن طريق التجربة الشخصية.

على سبيل المثال، نرى بوذا ترك حياته و عائلته و قصره ، بعد أن أدرك الصعوبة و المشقة التي يسببها المرض و الموت للناس، طلبا لمعرفة علة هذه الآلام و طريق الخلاص منها. و لم يتوقف و لو لحظة واحدة عن مجاهدة نفسه و البحث عن الحقيقة ليتوصل إلى معرفة الجواب عن تساؤلاته.

حضرة إبراهيم (ع) كذلك لم يتوصل إلى كشفياته إلا بعد كسر الأصنام، و ذلك بعد أن فهم أنه لا بد للإنسان من كسر الآلهة المتفرقة و الميولات و الأفكار المصطنعة من الذهن للوصول إلى معرفة الإله الواحد و التسليم له. فلا طريق إلى معرفة ذات الله الواحد و التسليم له إلا بالخلاص من القيود و التعلقات الدنيوية ، و منه النجاة من ألم الفراق و الفقدان و الوصول إلى الطمأنينة المطلقة.

حضرة موسى (ع) كذلك أعلن أن التسلط على الميولات و الجواذب المادية لا يتم إلا باتباع القوانين العشرة، حتى يتمكن الإنسان من تجربة السلام و الطمأنينة في حياته، و أن يصل في نهاية الأمر إلى الأرض الموعودة أين يحصل على معنى الإستقرار المطلق الناتج عن هذا السلام و هذه الطمأنينة.

أمر حضرة عيسى (ع) الأتباع بالتخلص من التعلقات المادية و الرغبات النفسانية ليتم لهم الولوج إلى الملكوت ، و أشار إلى الميلاد الثانوي قائلا : " عليكم أن تكونوا طاهرين مثل الولد النقي من الزوائد و إلا فلن تلجوا ملكوت الله أبدا".

ثم جاء حضرة محمد (ص) ليعلمنا طريق معرفة حقيقة النفس قائلا :

من عرف نفسه فقد عرف ربه.


رسالات الأنبياء إلى يومنا هذا حاملة لرسالة واحدة هي :" إعرف نفسك" ، يعني معرفة "أنا الأزلي و الأبدي" الذي لا يحدّ بالبدن الترابي و الإحتياجات النفسانية و الأفعال و ردود الأفعال المادية و الكيميائية و النفسانية التي تلازمه. رسالة الأنبياء و موضوع تعليمهم لا يحد أبدا بالأدوات المادية كالمخ و السلسلة العصبية المتصلة به أو بكيفية عمل الذاكرة و الحواس، و لم يطالبوا أبدا بالتوجه إلى الأفعال و العقائد المكتسبة من المجتمعات المختلفة أو العمل بها، بل أن قصدهم و توجههم لم يكن إلا إلى "وجود" تلك الجوهرة الثابتة التي رافقت الجنين من أول لحظة تولده و طوال حياته من الصغر إلى الشيخوخة ، دون أي تحول أو نقصان أو زيادة. فالكل يتغير ، سواء البدن أو العقائد أو الرغبات أو الأفكار أو الأهداف أو غيره، إلا تلك الجوهرة الثابتة، يعني "أنا" الذي يظل ثابتا و باقيا.

العرفان في الأصل عبارة عن نظام ، طريق و طريقة يعلم لآحاد الأفراد كيفية معرفة حقيقتهم الوجودية و كيفية معاينتها و بأي نحو يمكن لهم أن يعرفوا "أنا" الحقيقي و الثابت، ليكون لهم أن يعيشوا إلى الأبد في سلام و عدل تحت ظل هذا المركز العلمي و المنبع الحياتي. العرفان طريق استطاع الأنبياء ، يعني علماء الزمان، بواسطته أن يصلوا إلى كشف الله و شهود "أنا" و أعلنوه كحقيقة خالدة من أجل نجاة بني الإنسان.


1. Molana Salaheddin Ali Nader Angha, Sufism and Knowledge (Washington, D.C.: M.T.O. Shahmaghsoudi Publications, 1997), 18-19.